عندما تتكلم الشفاه لـبوجمعة أشفري استبدال العين
عندما تتكلم الشفاه لـبوجمعة أشفري
استبدال العين الفاسدة بالمخيلة والحلم
سعيد منتسب
ليس هناك اقتراب بدون معرفة· هذا ما تحاول بورتريهات الشاعر والباحث الجمالي بوجمعة أشفري أن تقنعنا به؛ ذلك أنه يلاحق، عبر مُولِّدات وتقنيات مختلفة، غير المرئي داخل المرئي (الوجوه) إرضاء لذوقه -ذوقنا-العميق في المعرفة· ولهذا، فإننا نشعر ونحن نمعن سيرا في بورتريهاته أننا منساقين إلى مسيرة غير مرئية وممتعة تتضاعف دائما عير تشغيل خيالنا وتصوراتنا ومرجعياتنا، بل إن هذا السير يجعلنا نتساءل: ما هو الانشغال الجوهري الذي تحمله هذه البورتريهات؟ وهل الفنان بوجمعة منشغل برسم الوجوه أم العلاقات؟
وما دام بوجمعة قد استعمل، في أغلب بورتريهاته، وثائق المقارنة سعيا منه إلى الاقتراب من أعماله وزرعها بما يليق بها من ضوء وظلال، فلا بأس أن نقوم بالتفاتة في ما اقترفت يداه (عينه) سابقا.
في تراتيل أرنب الغابة السوداء انهمك بوجمعة على نقل انفعالاته الجسدية التي يحملها في الداخل، وتدمير الحركات وزلزلتها وتحويلها إلى حريم؛ ذلك أنه غير محصن ضد الحريم، ويقيم، تأكيدا وإصرارا، في ذات جسد، ذات صدفة، ذات سرير، ويكره أن يغادر متعة التحديق إلى الآخرين (بصيغة المؤنث) الليليين الذين يقولون له في وجهه: لا يغرنك ما تراه· ولذلك، حول بورتريهاتك إلى حفلة تنكرية باذخة وأبقى الوجوه غير مرئية مع أنها مركزية في فن البورتريه، مما يمنحنا إمكانية الادعاء بأن الفنان يقتفي أثر المرأة الاستيهامية التي تتصدع وتتقلص باستمرار في إنتاجاته الشعرية والجمالية؛ ويكفي أن نقرأ الفصل الثالث من مؤلفه الفن بين الكلمة والشكل: (رجل يسعل تحت المطر- الكتاب الذي نسيته ذات يوم- البشرى والليالي العشر) لندرك أن عندما تتكلم الشفاه مجرد ذريعة لمواصلة اقتفاء السر للوصول إلى مملكته السعيدة: إثنوغرافيا الجنس المتعددة، وهذا ما انتبهت إليه دليلة أردان - بتواطئها الحميم- حين اعتبرت أن ما يقوم به البورترتيست (بوجمعة أشفري) أمام الموديل الذي يشتغل عليه يتأسس على علاقة سادومازوشية·· وممارسة الحب والقتل·
لقد أدرك البورترتيست أن الرؤية البصرية، دائما، خادعة، ولذلك استبدلها برؤية ذهنية لا تمنح الموديلات ما تستحقه من ضوء أو ألوان (كلها بالأبيض والأسود)، بل ما يجعلها قريبة من الغياب· فليس صدفة أن يحمل البورتريه الأول عنوان عندما يغيب الوجه؛ لا يهم الوجه، وحدها التفاصيل الصغيرة، المنزلقة، المهملة، تتراكم في ذاكرته، يمحوها ثم يعيد رسمها بانطباعية عفوية على قماش من خيال، لا يشبه أحدا إلا صاحبه، ولا يهتم بشيء إلا أنثاه التي تشبه العيون السود أو "أموروزا" أو "التوت المتوحش" أو "شجرة الأمنيات" أو "والواحدة لا تتحرك بدون الأخرى" أو "الحياة وجود دائم أمام النافذة"··إلخ·
إن بوجمعة أشفري في عندما تتكلم الشفاه يستعمل مواد وتقنيات متباينة، ولعلني أجازف إذا قلت بأنه أعلن- في جزء من هذا العمل- الانتماء لـانطباعية رونوار الذي كان منشعلا، في العمق، بقلب عادات التصوير والصباغة عبر استعمال ألوان نقية ووضعها، نقطة نقطة، بدون خلطها على ظهر القماش (كما دأب على ذلك الانطباعيون)· وأجازف أيضا بالقول إنه- في جزء آخر، وإن بدرجة أقل- يستلهم فتوحات السورياليين الذين يناهضون الحضارة الفاسدة ويستبدلون الواقع الخادع بالحلم والمخيلة والغوص في اللاوعي·
إن ما يهم البورترتيست في هاتين التقنيتين هي الخروج من هذا القفص الهائل الذي تصنعه الحواس، وأيضا التنازل عن مركزية الوجه لصالح قيمة الصداقة باعتبارها قيمة جمالية عليا· إن ما يقوله مالارميه: أنا أفكر من خلال الأشياء والأشياء تفكر من خلالي ينطبق على أشفري الذي يحاول الإمساك بالسماء عبر التشبث بوهج لحظة أو لمسة أو ارتعاشة صغيرة يضفيها على الموديل لمواجهة ضوضاء ذاته الجريحة (في البورتريهات جرح اسمه: الجليد) بوضعها تحت شمس الآخرين (كما يتصورهم، لا كما هم في الواقع)· ذلك أنه، حينما يقف أمام الموديل- يحاول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة رسم سلوك الشخصيات ورغباتها ووعيها:
-لا ينام باكرا· يستيقظ وكأنه لم ينم· تشعر، كلما نظرت في عينيه، بأنه في يقظة دائمة· لا يفقد هدوءه مع جلسائه· ينصت إليهم جيدا، ويستجيب لحساسيتهم الشخصية وحساسية اللحظة، وما إن يكاد يمسك بالمشترك في التناقضات حتى يشف، ويبدو كمثل ضوء (عندما يغيب الوجه)·
-هكذا تبدأ صباحاتها: ترى كل شيء· تحس كل شيء· تستنفد كل شيء· تكتشف كل شيء· وتنسى كل شيء·· (والواحدة لا تتحرك بدون الأخرى(·
-أحيانا، تشعر بأنها خاوية، ومهيأة، وجاهزة دون علم منها للانخطاف الذي سيفاجئها· وأحيانا أخرى، تشعر بأنها هي من سيفاجئ الانخطاف (يد مليئة بالسخاء..(
-تلوذ بالليل للنوم· تلوذ به، أيضا، للتأمل وإعادة النظر· تماما، كما يحدث لها، مع البحر· الأمواج، والأفق الممتد، والزرقة، تنعشها وتفرغها من ضجيج المدينة (الوقوف عند حد الفراغ)·
-الأمكنة التي تستهويه هي التي لا يعرف، حقيقة، أين يوجد داخلها· إنها تماما كقصائد مغرقة في اليأس واللامبالاة، يكرمشها حين يرى أنها مستعدة للضحك (شاخصا مثل بوم..)
-الحذاقة اكتسبها من هذا الانطواء، ومن الخجل الذي يتعارك معه في الخارج (خارج المنزل، وخارج القسم) (القمقم السحري(·
-ترتسم الايتسامة على شفتيه رغما عنه· هي ليست قناعا، هي طبعه (كطبع الأفعى)· يتذكر أن الابتسامة كانت تثير حفيظة معلميه وأساتذته (الأطفال يمثلون الأحلام(
-يحس في كثير من الأحيان أنه شخص آخر، يتلاقى معه، ويتقابل وإياه· يتعرف على نفسه بالتضاد وليس بالتشابه (صامتا كالأزرق)·
- هي تعثر دائما على ذاتها في الوضوح الذي تضعه أمامها· مجرد إشارات صغيرة فقط، وتتجه إلى الأمام، وتفرح· مجرد إشارات صغيرة أيضا، وتتألم·· (الطفولة كتابي المفضل(·
- تحافظ على كيمياء التجاذب بينها وبين الأشياء التي تحيط بها، خاصة الأشياء الصغيرة والحميمة· لا تملك يقينا مطلقا لأنها تسور نفسها بالشك والحيطة· الشك فيما تمنحه الكلمات من انطباعات قد تكون فقط توهمات ليس إلا (الحياة وجود دائم أمام النافذة(·
-··كانت سراب عفان بين يديه، وكان يقرؤها·· وفجأة (لا أعرف كيف حدث ذلك) خرجت كاملة مشيقة القوام، وجلست أمامه، وصارت تحدثه ويحدثها·· هكذا رأيت·· لم أكن أحلم، ولم أكن أتخيل، ولم أسأله عن الأمر فيما بعد· (خذ نفسا عميقا·· وانتظر)·
إن بورتريهات أشفري غير منفصلة عن وعيه الجمالي، وكأننا به يتأمل -عبر جسر الكتابة- ألبوم ذكرياته مع أصدقائه (بدرجات متباينة). فـالشفاه التي تتكلم (شفاه الموديل) تتلون بوعي آخر سابق أو متخيل (المناجاة -البوح -استخدام ضمير المخاطب -إطلاق صرخات الغضب والاحتجاج والاستسلام لأحلام اليقظة- السخرية) ، كل هذا يظهر بوضوح في كل البورتريهات. وكل هذا يؤدى إنتاج مزيد من الدلالة·· إن بوجمعة أشفري في هذا العمل الجميل والاستثنائي لم يحاول شيئا سوى ملاحقة نفسه ماهمَّ إن خسرت العالم·· المهم أن أكسب نفسي·· نفسي·